الحداثة والهيمنة الثقافية- هندسة الإنسان الجديد وتحديات الوعي.

لقد شهد العالم والإنسانية جمعاء في العصر الحديث انقلابات جوهرية، طالت ميادين المعرفة والقيم والسلطة، وكذلك أدوات الحكم وأساليب تنظيم المجتمعات البشرية. هذه التحولات النوعية تغلغلت في صميم التصورات والنماذج التي توجه الوعي والسلوك، من جانب، وفي الهياكل والنظم التي تشكل الإطار المنظم للعلاقات الإنسانية، أي في الكيان الاجتماعي الحديث الذي يمثل الوعاء الحاضن لتلك التصورات والمنصة المعبرة عن فلسفتها وقيمها، والتي تجسد رؤية الإنسان لذاته وللكون المحيط به، من جانب آخر.
الحداثة، حتى وقت قريب، كانت بمثابة روح العصر وبشارته المتوهجة، والتي لم تنفك تسحر عقول البشر وتهيمن على وجدانهم بسحر مقولاتها وأسسها، والتي كانت تبشر بفردوس دنيوي قوامُه الحرية الشاملة، والفردية المستقلة، والعقلانية الرشيدة، والديمقراطية التشاركية، والمساواة التامة، مع تبجيل يكاد يصل إلى حد التقديس للعلم والمنهج العلمي.
لقد أوشكت هذه المقولات أن تتحول إلى الدين الجديد للإنسان والعالم بأسره، وباتت الدول التي خاضت غمار التنوير وأنجبت في فضائها مقولات التنوير وفلسفته، تقدم نفسها بصفتها الحارس الأمين على التحديث والمبشر برسالة العصر. لم يجرؤ أحد على الاعتراض على تلك الأسس التي شيدت صرح العالم الحديث، ولا يزال تأثيرها طاغيًا حتى اللحظة الراهنة.
إلا أن الأزمات المتفاقمة التي انبثقت من رحم التحديث والتناقضات الصارخة بين قيم الحداثة وتجسيداتها على أرض الواقع، جعلت الحداثة عرضة للانتقادات اللاذعة، خاصة مع التحولات الثقافية العنيفة التي اجتاحت العالم في العقود القليلة الماضية.
الحداثة والنزعة الإقصائية
في خضم الانبهار بقدسية تلك المنطلقات المحفزة على إطلاق طاقات الإنسان وتمكينه من مقومات السيطرة على الطبيعة والكون، لاكتشاف أسراره وألغازه، كانت شعوب وثقافات بأكملها في مناطق شتى من العالم تُباد وتُمحى من الوجود، ليبقى إرثها الثقافي شاهدًا على مأساة إنسانية تفضح الوجه الآخر للتنوير والتقدم، الوجه المعادي للتنوع والتعددية، وللمصادر التي شكلت أنماطًا متنوعة من الشخصيات الثقافية، بعيدًا عن التنميط والهيمنة وأدوات القهر التي طورتها النظم الحديثة، وأبدعت في ممارستها لفرض النموذج الواحد الأوحد.
الهيمنة، التي اتخذت أشكالًا متنوعة في الأنساق السياسية والاقتصادية، ما هي إلا تجليات للثقافة السائدة التي تشكل روح الجسد أو النسق المهيمن على الواقع والخيال الإنساني فكرًا وإبداعًا منذ القرن الثامن عشر. الحرية والفردانية والعقلانية، بقدر ما فتحت آفاقًا رحبة للإنسان والمجتمعات في مسيرة الإبداع والتقدم، فإنها في الوقت ذاته حملت في طياتها نزعة شمولية تستبطن الإقصاء، وذلك لأن جذورها منفصلة عن تربة القيم والأخلاق الأصيلة.
هذا لا ينفي وجود هاجس الأخلاق في النظام المعرفي والاجتماعي والقانوني الحديث والمعاصر، ولكنه هاجس مصطبغ بصبغة النسبية المطلقة، حيث لا شيء يبقى ثابتًا في هذا الوجود. فبعدُها المرجعي المحايث للواقع، جعلها خاضعة للواقع المادي المحسوس ومتحللة من الأبعاد الروحية السامية التي تستجيب لتطلعات الإنسان الوجدانية والروحية الدفينة.
في هذا السياق، تعتبر المرجعية الدينية منبعًا ثريًا لتسديد القيم وتوجيه السؤال الأخلاقي في الحياة الإنسانية، وتشكيل وعي الإنسان، إذ يقدم الدين وازعًا ذاتيًا للإنسان، يحميه من جميع التطرفات التي تضر بالإنسان والمجتمع على حد سواء. ومن ثم، فإن حركة النقد مع الأنوار، بقدر ما أسدت خدمة للإنسان، فإنها قد جردته من عناصر الحماية في المستقبل، وتركته عاريًا أمام كل التقلبات والعوارض العنيفة التي من شأنها الإضرار به.
وهو ما تجلى حينما تحول الإنسان إلى مجرد أداة ومادة في الأزمنة اللاحقة، بعد أن تربّع فترة من الزمن على عرش السيادة المطلقة في فكر وفلسفة النهضة والأنوار. وتبين لاحقًا أنها سيادة زائفة، لم تصمد أمام الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي أفرزت نظمًا ثقافية ورؤى فلسفية وكشوفات علمية وتقنية تهدد الوجود الإنساني في صميم استمراريته، بسبب اختلال التوازن في العلاقات بين الإنسان والكون، وبين وفرة الإنتاج والاستهلاك مع تطور النظام الرأسمالي إلى نيوليبرالية متوحشة، وبين حاجيات الإنسان واستقرار النظام الاجتماعي والبيئي.
التحول العميق الذي نشهده مع ثورة الوسائط الثقافية والإعلامية وطبيعة الرسالة التي يراد للإنسان الجديد استيعابها في عملية خضوع طوعي، ليست شكلية أو محايدة على الإطلاق، فمن يمتلك أدوات صناعة الثقافة والوعي، فإنه حتمًا يمتلك المستقبل.
خطر الأسلحة الثقافية الناعمة
لقد أبدعت النزعة العلموية في صناعات فتاكة بالإنسان ومضرة بالطبيعة، سواء كان ذلك في الأسلحة البيولوجية والكيماوية أو الأسلحة الثقافية التي تطورت على مدى القرنين الماضيين، وأثمرت ثورة هائلة في المجال المعلوماتي والرقمي. وجسدت هذه الثورة بحق تحولًا ثقافيًا كبيرًا امتد أثره إلى نظم القيم والفكر والاجتماع، ولكن ردود فعل الإنسان على الأثر المدمر الذي تخلفه الأسلحة التقليدية في الحروب، لا يوازيه نفس رد الفعل ولا يرقى إلى مستوى الوعي بمخاطر الأسلحة الثقافية الخفية.
ذلك أن الحروب المسلحة مرئية للإنسان وتنعكس بشكل أو بآخر على العلاقات بين الدول، بينما الحروب الثقافية وأدوات الفتك الناعم بالإنسان والمجتمع البشري، وتأثيرها العميق في التحكم في الوعي، غير مرئية، ولا تظهر آثارها بشكل آني في النظام الاجتماعي وشبكة العلاقات السائدة، مما يعيق تشكل ديناميات جديدة ترفض كل ما يهدد النوع البشري، كما هو الحال في تطور المواثيق والنظم والقوانين التي تحظر استخدام جملة من الأسلحة في النزاعات المسلحة، ولو بشكل صوري.
طبيعة التعامل مع التحول الثقافي وما يحدثه من تغييرات جذرية لا ينبغي أن تكون مماثلة لآليات ضبط باقي المجالات الأخرى. ذلك أن التغيير القسري في نظم القيم، يكون بشكل أو بآخر تمهيدًا للطريق أمام الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، أو تابعًا لها. فالأزمة من هذا المنطلق، تكمن في النموذج برمته وفي الفلسفة التي يقوم عليها كما ذكرنا سابقًا، وليس في الأعراض التي قد تحتاج علاجًا أو تدخلًا جزئيًا أو علاجًا وقائيًا لوقف النزيف المتواصل.
هذا القول لا يعكس نزعة تشاؤمية تكرس الاستسلام واليأس، وإنما هو تنبيه للوعي بمخاطر الهندسة الثقافية الجديدة للإنسان والمجتمع. فالوعي هو الشرط الأساسي للفعل والتجاوز لنزعة التفكيك والهدم وتجريد الإنسان من كل مقومات المناعة التي تعبر عن فطرته وحسه النقدي الذي يبرز استبطان الإنسان للإرادة الحرة الرافضة لكل أشكال الإخضاع والتذويب القسري في قوالب جاهزة. وما دامت مداخل هذا المنحى ثقافية وترتبط ببناء وعي وإنسان جديد يحمل تطلعات سامية، فإن المدخل الحقيقي لذلك هو الثقافة بلا أدنى شك.
تغيير المنظور الثقافي لا يتم على غرار باقي أنماط التغيير التي نشهدها في حياتنا اليومية السياسية والاجتماعية، وإنما يستبطن تغييرًا هادئًا وبطيئًا في الجينات الثقافية للإنسان، تظهر ملامحه على مدى زمني طويل، وذلك بالاستعانة بالوسائط الثقافية والإعلامية الناعمة في هندسة الإنسان والمجتمع الجديد.
ميكانيزمات الهندسة الثقافية للإنسان الجديد
الهندسة الثقافية هي عمل دؤوب وممتد في الزمن، يعتمد على الاشتغال الدقيق على ميكانيزمات الوعي الفردي والجماعي، بهدف التحكم فيه وفي اختياراته وتوجهاته على المدى البعيد. تتحول جملة من اختيارات الإنسان وتمثلاته ورؤيته لذاته وللعالم ولما يحمله من قيم وتصورات، إلى ما يناقض كينونته الحقيقية ويهدرها ويسلب إرادته الحرة وإن توهم بغير ذلك. بل إن الإنسان الفرد داخل هذا النموذج قد يعتبر نفسه حرًا حرية مطلقة في اختيار ما يريد وفيما يفعل، ولكنه في واقع الأمر مسلوب الإرادة والحرية معًا، وهو ما يستدعي ديناميات ثقافية واجتماعية وسياسية جديدة، تعيد للإنسان كينونته المهدورة وكرامته المصونة.
تسعى آليات الاشتغال على الوعي الثقافي، إلى تغذية الوهم لدى الأفراد والجماعات بالتحرر الكامل على مستوى الإرادة، ولكن واقع الحال المؤلم يجعل وعي وسلوك الأفراد يتحرك بشكل لا إرادي وفق إرادة وهندسة وأهداف خفية لأطراف أخرى مستفيدة.
هذه الأطراف الأخرى هي الجهات المستفيدة من تطويع الإنسان واستعباده بأشكال وأساليب غير معهودة، لا تستخدم بالضرورة السلاسل والأغلال الموروثة من القرون الخالية، بل أغلالًا وسلاسل متطورة تشتغل عليها شركات ومؤسسات ضخمة تخدم السوق والنظام المهيمن، من خلال التحكم في الشعور والوعي، بتوظيف مجموعة من المعارف والعلوم الخادمة، من علم النفس وفروعه المتعددة إلى الذكاء الاصطناعي وعلوم الاتصال السمعية والبصرية والفنون الراقية، وغيرها الكثير.
والدليل القاطع على ذلك هو أن أي فعل في أي بقعة من بقاع العالم، حينما يذكّر بالبعد المركب للحرية والإرادة والكرامة الإنسانية التي لا تتجزأ، يجعل هذا النموذج يكشف عن تناقضاته الكامنة، فينكشف الزيف عن سحر المقولات المؤسسة، ذلك أن التقدم الراهن في حقيقته – أو في جوانب كثيرة منه على الأقل – قد سلب الإنسان أغلى ما يملك، وهي حريته واستقلال إرادته.
ولعل الاحتجاجات العارمة التي تشهدها الجامعات الأمريكية المرموقة تعكس مثالًا حيًا للوخز المؤلم الذي يكون معه الرد عنيفًا، كما أنها تظهر حسًا أخلاقيًا رفيعًا يعبر عن الطبيعة الإنسانية الأصيلة التي ترفض الطمس والتشويه، بالإضافة إلى الدور النقدي البناء الذي ينبغي أن تضطلع به النخب المثقفة التي تنتسب إلى الحقل الأكاديمي والثقافي.
لقد كانت الصبغة الشمولية التي اصطبغ بها العالم الحديث، والمخاطر الجسيمة التي يحملها على الإنسان والمجتمع الإنساني برمته، موضوع مقاربة معمقة ومعالجة مستفيضة من قبل عدد كبير من الحقول المعرفية المتنوعة، من الفلسفة إلى الأدب، ثم أخيرًا ظهور دعوات ملحة تنبه إلى الأهمية القصوى للأخلاق والقيم الأخلاقية في حفظ تماسك المجتمع الإنساني وضمان استقراره.
نستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض النماذج الفلسفية البارزة مثل مدرسة فرانكفورت الألمانية وحسها النقدي المتميز الذي اتسمت به في نقد العقل الأداتي في مراحلها المتتالية، وقد كان الانتباه العميق إلى الانعكاسات السلبية لوسائل الاتصال الجماهيري على الإنسان وأهمية الثقافة والصناعة الثقافية في حينه أمرًا بالغ الأهمية. كما اتسمت المقاربة النقدية المتميزة لإريك فروم (في كتابيه: "الإنسان بين الجوهر والمظهر" و"الخوف من الحرية") وغيره من علماء النفس بالكشف عن الأزمة الحادة التي تولدت مع النموذج الحديث، وأهمية القيم الروحية المتسامية باعتبارها علاجًا شافيًا وملاذًا آمنًا من الاضطراب والتوتر النفسي الذي خلقه النسق الحديث.
وفي حقل علم الاجتماع، كان بيير بورديو وما يزال إدغار موران إلى يومنا هذا يعتبان على العالم انحرافاته الخطيرة والمهالك التي يسير إليها بخطى متسارعة. ويمكن التمثيل في عالم الأدب برواية "عالم جديد شجاع" للكاتب الكبير ألدوس هكسلي، والتي تضمنت انتصارًا ساحقًا للشعور والإرادة الإنسانية على حساب النزعة الشمولية مع تحذيره الشديد منها وتنبُّئِه بمستقبلها المروع الذي تحمله للإنسانية جمعاء. وقد اعتبرت روايته هذه، والتي أثرت بشكل مباشر في الكاتب جورج أورويل ليصيغ رواية شبيهة لها، بمثابة تحذير شديد اللهجة من النزعة الشمولية المتفشية في السياسة، كما هي رائعته الخالدة "1984".
تبقى هذه النماذج الملهمة التي استحضرناها مؤشرًا واضحًا على الوعي المبكر بالخطر الداهم الذي يتعرض له الإنسان والمجتمع الإنساني، وهو الوعي الذي استمر وتواصل إلى حدود اللحظة الراهنة، ولكن الوسط الأكاديمي نفسه شهد هو الآخر تحولات عميقة ومفصلية جعلت منه أداة فاعلة في خدمة الهيمنة، وليس عنصر تنوير وتحرير للإنسان مما قد يكبل عقله ووجدانه، إلا ما تحتفظ به بعض الحقول المعرفية المستنيرة أو التيارات النقدية البناءة نظرًا لتقاليدها العلمية الراسخة واتصالها المباشر بالهواجس التحررية للإنسان.
ختامًا
لقد حدثت جملة من تلك التحولات الجوهرية، في سياق هيمنة الدولة الوطنية وما تتسم به من أذرع ووسائل أيديولوجية متطورة تمرر أيديولوجيا الدولة ومصالحها. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الدولة الحديثة وما يكتنفها من سلبيات جمة فيما يتعلق باختراق المجتمع وتكبيله، كانت وسائطها تحافظ على الحد الأدنى من التعاقدات الملزمة فيما له علاقة بالإنسان وتطلعاته الثقافية والسياسية والاجتماعية.
ما يهمنا هنا هو المنحى الثقافي وموقع الإنسان الذي كان يُنظر إليه من منطلق المواطنة الفاعلة التي تربطه بالدولة جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة، وهو الأمر الذي تضاءل وتراجع بشكل ملحوظ مع ضمور دور الدولة وهيمنة الشركات العملاقة التي يحكمها هاجس الربح المادي السريع.
وليس هذا هو الهاجس الوحيد حتمًا، بل أصبحت الصناعة الثقافية وتنميط القيم أحد المجالات الأساسية التي هيمنت عليها الشركات العابرة للحدود والثقافات، والأصح أنها الهادمة للحدود والثقافات، لا سيما في ظل عالم تتشكل فيه الميديا الجديدة كأداة فعالة في هندسة الواقع والمستقبل الإنساني برمته. بل إن الدولة ذاتها تحولت هي الأخرى إلى مجرد أداة طيعة في بسط الهيمنة والسيطرة وقمع أشكال التمرد والرفض، مما يعني بوضوح أن التحول العميق الذي نشهده مع ثورة الوسائط الثقافية والإعلامية وطبيعة الرسالة التي يراد للإنسان الجديد استيعابها في عملية خضوع طوعي، ليست شكلية أو محايدة على الإطلاق، فمن يمتلك أدوات صناعة الثقافة والوعي، فإنه حتمًا يمتلك المستقبل ويتحكم بمصير الإنسانية جمعاء.
فهي سلطة فوق السلطات، وسيظهر ذلك بشكل جلي في المقالة المقبلة، حينما نبرز تجلياتها العملية ومضامينها القيمية والثقافية وطبيعة تأثيرها العميق على الإنسان، نموذج الإنسان الجديد، الذي يتم التلاعب بهويته الجندرية، فكيف بباقي اختياراته وتطلعاته؟ سنكون بالطبع أمام منظور خاص للدين في فهم موقع الإنسان في هذا الوجود الفسيح.